دروس في تفسير القرآن الكريم
يلقيها الدكتور علي رمضان الأوسي
في المركز الاسلامي ايام الخميس
آفة التنمية النفاق
(إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً، مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا، إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا، إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا، مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا)[1].
لا زال الحديث عن المنافقين باعتبارهم يشكّلون ظاهرة نشازاً ومنبوذة في المجتمع المسلم وقد عرضت هذه المقاطع القرآنية من سورة النساء جانباً مهماً من صفات المنافقين الذين يضمرون غير ما يظهرون وهنا تكمن عقدة الخطر لعدم ضبط حركتهم الاجتماعية بين الناس.
هل هم يخادعون الله حقاً؟
إنّ المنافقين انما يمارسون نفاقهم مع رسول الله وأوليائه وأسلوب هذه الآية يقرب من أسلوب قوله تعالى: (ان الذين يبايعونك انما يبايعون الله)[2]، حيث ان معاملة الرسول كمعاملته سبحانه، وحقيقة الخداع لا يمكن ان ينسجم مع المطلق سبحانه إلا بهذا التقدير ولعلّ هناك توجيهات أخرى من غير تقدير إضافة. ورداً على خداعهم هذا استخدم القرآن الكريم اسلوب الجناس حيث قابل ذلك بقوله تعالى: (وهو خادعهم) واستعار اسم الخداع للمجازاة على العمل والله منزّه عنه، فالمنافقون وإن تمتعوا بمصالح اجتماعية كبقية المسلمين لأظهارهم الايمان امام الناس لكن مصيرهم يوم القيامة جهنم لا نصير لهم منها ولا سبيل ينتظرهم غير عذاب الله القاهر فوق عباده فهم مخدوعون حقاً.
النفاق يصدّ عن ذكر الله:
عدم تطابق الانسان في ظاهره وباطنه يسبب له تثاقلاً وهذا النوع من الخمود وعدم المبادرة يزيد في ابتعاد المنافق عما لا يؤمن به فالصلاة فريضة على المسلم يؤديها المنافق بكسل وتثاقل ثم لا تجد على ألسنتهم أو في مواقعهم ذكراً لله إلا قليلاً لأنهم وان تظاهروا بالذكر أمام الناس فهو ليس لله حقاً وما يحصدونه من ذكر الله فهو قليل.
مذبذبين:
صفة أخرى يعيشونها هي حالة التردد بين المؤمنين والكافرين وهي حالة من الاضطراب النفسي والروحي وحتى في المواقف العملية وهذا التذبذب يؤثر أثره في التكاسل والتكافل الذي أشّارت إليه الآية السابقة.
وهذا التردد نوع من الضلال (ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً)، سواء كان هذا الطريق إلى الجنة في الآخرة أو الطريق الذي يوصل إلى الحق والهدى، ومن لم يوفّقه الله لذلك فهو في ضلال وتيه.
ولاية الكافرين:
في الأساس لا توجد ولاية بين الكافر والمؤمن فليس أحدهما ينتصر للآخر حقاً ولا يواليه بشكل صادق (ما لكم من ولايتهم من شيء)[3]، والولاية (بفتح الواو) هي النصرة،، و (بكسرها) معناها: تولّي الأمر.
فلا يمكن ان يكونوا حلفاء او اصدقاء او انصاراً حقيقيين ولعلّ العلة في ذلك هو الاختلاف والتباين في الخلفية الاعتقادية. أتريدون ان تكون لله عليكم حجة بالغة انكم منافقون وقد ورد عن ابن عباس: (كل سلطان في القرآن حجة).
الدرك الأسفل:
كما ان للجنة درجات كدرجات عليين والصديقين والابرار والصالحين والشهداء وغيرها فهناك في جهنم دركات وهي: جهنم، لظى، الحطمة، السعير، سقر، الجحيم، الهاوية.
والدرك:
هو الحبل الأخير الذي توصل به من فوق حبال أخرى وهو يلامس قعر البئر لأخراج الماء منه بالدلو وغيره، فآخر نقطة هي الدرك كما في جهنم وهذا مأوى ومصير المنافقين، وحيث هم هناك فلا نصير ينصرهم ولا ينقذهم من هذا العذاب (ولن تجد لهم نصيراً) وان كان سياقها يذهب الى عدم نصرتهم في الآخرة لكن لا يمنع ذلك الا يكونوا منصورين في الدنيا لشدة ما تحيط بهم من كراهية بسبب أفعالهم الشنيعة والتي تمقتها النفس الانسانية التي لا تميل بفطرتها الى النفاق.
هل هناك توبة للمنافقين:
يأتي الاستثناء هنا (إلا) لمن يتوب من المنافقين ولكن هذه التوبة مشروطة ليست كما للكفار إذا ما تابوا توبة نصوحاً. فيقبلها الله سبحانه (قل للذين كفروا إنْ ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف)[4]، لكن المنافق اذا ما أراد ان يعلن توبته فعليه:
1- الرجوع عن النفاق: (تابوا).
2- اصلاح النيات وهي معالجة شاقة (وأصلحوا).
3- الاعتصام بحبل الله ودينه والتصديق برسله (واعتصموا بالله).
4- اخلاص الدين لله سبحانه والبراءة من الانداد (وأخلصوا دينهم لله).
وان قبلت توبة المنافقين فيكونون مع المؤمنين وليسوا مؤمنين وانما يلحقهم ما للمؤمنين من أجر بسبب المعيّة مع المؤمنين وذلك تعظيماً لأمر المؤمنين لا غيرهم (وسوف يؤتِ الله المؤمنين أجراً عظيماً) اي ثواباً عظيماً.
لماذا العذاب؟
العقوبة جزاء للمخالفة والمعصية والذنب والجرأة على الله سبحانه اما العذاب بذاته ليس غرضاً إلهياً (ما يفعل الله بعذابكم ان شكرتم وآمنتم)، فالشكر الذي معناه الاعتراف بالنعمة مع تعظيم المنعم حين يجتمع مع الايمان وهو التصديق بالله، فأنما يحقق غاية التوجه والعبودية لله سبحانه (وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون)[5]، ولا يزال الله شاكراً أي مجازياً للشاكرين على شكرهم.
فلا يضيع عنده شيء من الطاعات ولا يفوته شيء من معاصي العاصين.
دروس اجتماعية مستفادة:
1- المخادعة بين الناس ماذا ترمي؟
2- ذكر الله وسلامة النفوس.
3- أثر التردد في اضطراب المواقف الاجتماعية.
4- أخطار ولاية الكافرين من دون المؤمنين.
5- النفاق اشد أنواع الكفر كيف يكون ذلك؟
6- كيف تطهر التوبة ساحتي الكفر والنفاق؟
7- لماذا الشكر يصنع إيماناً قوياً؟ واثر ذلك على المجتمع.
الكلمة المسؤولة
(لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا، إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا، إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً، أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا)[6].
بعد الحديث عن النفاق والمنافقين وخطرهم في المجتمع تحدثت الآية 148 من هذه السورة عن:
الغيبة:
وهي ان تذكر أخاك في غَيبته بما يَكره، وان ذكرته بما ليس فيه فهو بهتان وهو الكذب المفرط.
وذكرت الآية المباركة القاعدة الأصل وهي (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول)، وكذلك غير الجهر ولكن الجهر أفحش.
والجهر: ظهور الشيء بأفراط وهو على نوعين بصري كما في قوله تعالى: (واذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة)[7]، وسمعي كما في قوله تعالى: (وإنْ تجهر بالقول فأنه يعلم السرّ وأخفى)[8].
ثم أسست الآية استثناء لهذه القاعدة (إلا من ظلم) فلا حرج على المظلوم ان ينتصر ممن ظلمه ولا بأس ان يجهر له بالسوء من القول.
والسوء: هو كل ما يغمّ الانسان. ويعزز هذا المعنى ما ورد في سورة الشورى: (ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل)[9].
ثم تعود الآية اللاحقة لتبيّن أن إظهار الحسن الجميل من القول لمن أحسن إليكم هو شكر على فضله. وكذلك إخفاء الحسن الجميل وعدم إظهاره خشية الرياء وكذلك التجافي عن الذنب بالعفو والصفح عمن أساء إليك، كل ذلك ممدوح وهذا الخطاب متوجّه الى جميع المكلفين، وقد جاء التأكيد في نهاية الآية المباركة قوله تعالى: (فأن الله كان عفوّاً قديراً) وقد ورد عن رسول الله (ص): (ان الله عفوّ يحب العفو) وكذلك قوله (ص): (عليكم بالعفو فأن العفو لا يزيد العبد إلا عزّاً، فتعافوا يُعزّكم الله)، وهذا التأكيد في الآية على العفو يعتبر سنة إلهيّة علينا الاقتداء بها لا سيما حين يكون العفو عن مقدرة (عفوّاً قديراً) وهذا مقام عظيم تظهر فيه عظمة المدح حين يكون العفو عن قدرة لا عن ضعف.
خطر التفريق بين الله ورسوله:
هناك من يجحد وينكر ويكفر بالله ورسوله وهم طائفة من اهل الكتاب وكان منهجهم التفريق وتكذيب رسل الله وتبعيض الايمان بهم (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) فهم يصدّقون بعضاً من الرسل ويكذبون بعضاً آخر وذلك غير مبني على دليل وهو مخالف لدين الله والايمان بالله الذي بعث الرسل جميعهم من عنده ثم يتخذ أولئك بين التصديق والتكذيب طريقاً وسبيلاً لأضلال الناس وإلقاء الشبهات بين المسلمين من خلال الطعن بالرسل ولو ببعضهم (ويريدون ان يتخذوا بين ذلك سبيلاً).
فماذا أعدّ الله لهم بسبب هذا التفريق الذي يهدّد البناء التوحيدي في المجتمع؟ فجاء قوله تعالى: (أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا) يهينهم ويذلهم فهم بابتداعهم هذا السبيل التشكيكي والمضلل بدعوتهم جهّال الناس للايمان بدعاواهم المضللة استحقوا ذلك المصير الذي اشارت اليه الآية حيث أفادت انه لا تردّد في الحكم عليهم بالكفر بدليل كلمة (حقّاً) وان الكفر بأيٍّ من الرسل هو كفر بالجميع.
الطائفة الثانية (الذين لم يفرّقوا):
وهؤلاء تصفهم الآية 152 من السورة بأنهم (آمنوا بالله ورسوله ولم يفرّقوا بين أحد منهم) وعدم التفريق يوثق إيمان الفرد بالله ورسله، وهذه الطائفة الثانية هي من تقف أمام ذلك النهج التشكيكي الذي يفسد إيمان الناس بالشبهات والاكاذيب، وقبال موقفهم السليم هذا (سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفوراً رحيماً)، يعطيهم ثوابهم الذي يستحقون فالله غفور يستر السيئات ويغفر لهم المعاصي، ورحيم يقبل الحسنات ويتفضل عليهم بالهداية الى الحق وابعادهم عن العذاب.
دروس اجتماعية مستفادة:
1- الاخطار الاجتماعية للغيبة.
2- ما هي حدود الانتصار من الظالمين.
3- الأساس في الخطاب عدم الجهر بالسوء من القول.
4- وحدة الرسالات الالهية طريق للحوار الديني التوحيدي.
5- الايمان وحدة متكاملة لا تتجزأ.
6- (فماذا بعد الحق إلا الضلال) كيف نقرؤها في ضوء عدم التفريق.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] - سورة النساء: 142-147.
[2] - سورة الفتح: 10.
[3] - سورة الانفال: 72.
[4] - سورة الانفال: 38.
[5] - سورة الذاريات: 56.
[6] - سورة النساء: 148-152.
[7] - سورة البقرة: 55.
[8] - سورة طه: 7.
[9] - سورة الشورى: 41.