شيء عن مدينة العمارة العراقية...
نعيم عبد مهلهل..
( حتى لو بلغت آخر العمر ،
حتى لو قذفت مدبّرة الملجأ
بجسدي الشائخ إلى الخارج
بكيس قمامة ..
سأهتدي إليك.
ومثل جرو أعمى
فصل - الآن - عن أمه النفساء
سأتشمّم قدميك
وأبكي )
(مقطع من نص كتبه القاص الميساني الكبير جمعة اللامي بعنوان آيات المنشق الميساني ، وفي مقدمته الإهداء التالي : إلى نعيم عبد مهلهل ، احتراما له لمقاله في ميسان الدنيا )
قبل زمن نشرتُ في الزمان اللندنية مقالة هي في لبها مديح لواحدة من ساحرات دجلة أسمها العمارة ، وسُعدت جدا في تعليقات أبناء العمارة وبعض عراقي الداخل والمهجر الذين لم يتسنى لهم زيارتها ،ولكنهم رأوها جيدا بين طيات المديح الذي دونته تحت أجفان المدينة التي تستحق كل هذا المديح والغزل ، ليعلقوا على المقال في الأمكنة المخصصة للتعليق عندما نشرَ في مواقع إلكترونية بعد نشره في الزمان ..
غير أن رسالة من مجهول حملت رابط المقال وعبارة تقول ( أشجابه للغراف طير المجرة ) ، أثارت فيْ الرغبة للكتابة عن المدينة من قفا أخر ، عندما أحاول في هذه المرة الولوج أليها من رحمها وليس من الخاصرة كما فعلت في أول مرة ،ولكن ليس برؤية الداعر إلى ضحيته ، بل برغبة لمعرفة ما حملت هذه البطن من أجنة صنعت للتاريخ دهشته الخضراء ، وللأغنية طعما عسليا ندركُ في مذاقه قيمة آية النحل التي أرتنا ما لطيب الرحيق من فم السماء قيمة في صنع وجدان البشر وكبرياؤهم .والعمارة حتما من المدن التي تعرف كيف تصنع كبرياء الأبناء والأحفاد والقادمين الذين لم تنجبهم هذه البطن بعد.
( صاحب العبارة الأثرية اشجابه للغراف طير المجرة ) وقع بأسم ( الناصري ) في ذيل الرسالة وهو خبث معروف قصده ، أي أنني من أبناء مدينة الناصرية فلماذا كل هذا المديح لمدينة لم أولد فيها ..؟
ولا ادري إن كان حقا هو ناصري ، أم من نتاج زبالات الثقافة والعبث والحسد .( المهم هو لا يستحق أن يكتب عنه اكثر من هذا ) لنعود إلى مدينة رغيف الشعير ، والسمك الملون ودمعة مسعود العمارتلي وهو يطلق في فضاء المدينة صدى القلب المتوجع ، فتظهر لنا حياته الغريبة ما يطلق عليه اليوم ( الجمال المثيلي ) الذي كان مباحا بحدود مجتمعية موزونة ، ولايعاب عليهم سوى في نظرة الناس الخاطفة لهم ،وكان هؤلاء وفي كل مدن الجنوب من الذين يجيدون أحياء الأعراس ، وفي رقصهم ودعابتهم وشجي صوتهم يستعيد البسطاء راحة الروح والجسد بعد عناء يوم متعب في مساطر الطين وحقول الشلب وساحات العرض العسكرية ، وحمل أكياس التمر الذي يصدره التاجر اليهودي إلى الهند بزوارق اشتراها من سكراب زوارق شركة الهند الشرقية التي كان لها خطا نهريا عامرا بين البصرة وبغداد ومن أهم محطاته مدينة العمارة.
مسعود صنع في حياته شجنا سرياليا ، لأنه اكتسب من المكان قدرته السحرية ليآزر تحولاته ، من أنثى إلى ذكر أو بالعكس.. وبهذا التحول عاشت المدينة في وجدانه ، وعاش هو في روحها يكتسب البحة الجميلة ليخلق للسامع راحة القلب ويضيف للمصغي إليه نعاس اللحظة الفاتنة..
في الحرب لم نجد شجنا غير شجن مسعود من يبقي المدينة محتفظة ببهاء المكان ، وكانت جبهات الطيب والشيب والكحلاء ولسان عجيردة وجلات والفكة تأوي إلى نهارات المدينة لتستريح في حماماتها الشعبية ومقاهيها ، فالمدينة تصنع نزهة الخيال وبتفاؤلها العجيب ظلت تبعد شبح الموت عن أجفان الجنود ، وربما هي من المدن التي نالت مديح أناشيد الحرب كالتي كانت تقول ( ها يا أهل العمارة ..هاي اجمل ابشاره .. اليوم كلنه اجنود ..عن الحدود انذود ، وعل النصر عبارة )..
وبالرغم أنها مدينة حديثة التكوين ولم تتعود كما أمكنة ميسان الأخرى التي سكنت أزل المعارك منذ أزمنة إيلام وسرجون الأكدي وكورش والاسكندر والقرامطة والبوهيين والصفويين وسليمان القانوني والجنرال مود ، إلا أنها مع اندهاشها من وجع القنابل والراجمات رضت لتكون صامدة ، ومهما يكن مبرر الحرب وغاياتها ،أبت أن تدع الغرباء يشربون من حليب ضرعها ، وبين مهادنتها للفيالق والجنرالات ورفضها للحرب واختباء أبناءها بين غابات القصب والقتال ومقاومة صانعي جندية الحرب ( بخليجياتها الثلاث ) عاشت المدينة وقائع وجود صعب ، وصنعت من بيئتها الحالمة وأرغفة بطاقات التموين وقصائد شعراءها خصوصية الحالم بفرادة حلمه ، وركنت للرؤى والمستجدات بطريقة هادئة لتصنع في عزلتها وصمتها تواريخ حلم ربما لم نره بعد ، لكنه سيظهر يوما ما ليطفوا على مياه الاهوار وأديم دجلة وكل سواقي العشق التي صدح لها مسعود العمارتلي ودونها بأنامل الشوق من حنجرته السومرية كما يدون كاهن المعبد وصايا الآلهة عشتار في مواددة الغرام بين ذكر وأنثى.
الكتابة عن هذا الوجود لم يوثق جيدا ، وربما فعل جمعة اللامي ، وعبد الرزاق المطلبي ، وعيسى حسن الياسري ، وعبد الجبار الجويبراوي ..وعبد الرزاق عبد الواحد ، وحسب الشيخ جعفر ، وعبد الجبار عبد الله ولميعة عباس عمارة ، وبعض من الذين وثقوا لحياتها السياسية والفكرية والاجتماعية، فعلوا ما عليهم في أداء الواجب اتجاه تاريخ مدينة انتمت إليهم قبل أن ينتموا اليها ، لكن هذا في مجموعه الكمي والنوعي لم يكن كافيا إزاء مدينة تستحق من أبناءها مجلدات تحكي رؤى ما أُنشد وغنى وكُتب وانتشى واشتهى وتألم واستشهد وعشق تحت العيون الكحلية لمدينة هواءها أعذب من قبلة الوردة للفراشة التي ظهرت للتو من رحم فراشة أخرى ..
ليس العمارة وحدها من لم يوثق تاريخه الموشوم بالسر والدهشة والغزل ،بل مدن العراق كله ،وخاصة جنوبه الذي شهد بفعل مظلوميته المكتسبة من مزاج الطغاة والولاة ومفوضي الأمن مالم يشهده من الأسى أي جنوب آخر ،ولكنه عكس معادلة ( السوط يقود إلى قنوط ) وتلك هي عبارة الثائر الروماني سبارتكوس ، لتصير سوط يقود إلى الأغنية والدعابة ورسالة الغزل بالوجنات الحمر كما الراية الشيوعية التي حملتها خدود بائعات القيمر واللبن الرائب وخِريط قصب الأهوار..
وعليه لابد للمدينة أن تعيد قراءة نفسها ، وسط أتون الخطر الجديد من الطروحات الغريبة التي قد تهجو الحداثة وتحاربها ، وعليها كما مدن العراق الأخرى التي يُراد لها أن تقرا تواريخها قراءة المتأمل لروحه ، أن لا تنتبه إلى وعود الذين يعتبرون الثقافة وزارة ( تافهة ) تعطى كفتات المائدة لمن يأتي متأخراً عن الوليمة .
هذه مقدمة أردت فيها أن انبه أولئك الذين قد يعتقدون أن قطرية المدن هي وحدها من تبيح لنا الحديث في حدودنا الإدارية فلا نتعداها إلى مدن أخرى .( مثال : إن كنت ولدت في النعمانية ،فلا تكتب سوى عن النعمانية ) وهم قد لا يدركون مثل صاحب الرسالة الأثرية أن ايتاليو كالفينو يقول : سحر المدن يظهر في أقلام غرباءها ،وهذا الأمر لا يُعرف سره .
واعتقد أنني عشت هاجساً كهذا عندما عشت في طنجة لاكتب كتابا عنها ،لاكتشف إن اجمل ما كتبَ عن طنجة هم الغرباء الذين أتوا اليها من مدن العالم كله ليعيشوا فيها ..
إذن العمارة هي العمارة ، كما الناصرية هي الناصرية ، والعشار هو العشار ، لن يتغير فيها هاجس الشوق المتعلق كما قناديل العرس في أذيال معاطف حراس محلاتها الليليين ، لن يتغير لبها ، حتى لو تغيرت بطاقات هوية المنتفعين من جرحها القديم والجديد ، لن يتغير ثوبها ورملها وطعم قنطار نخيلها وقيلولة جواميس معدانها ..
لن يتغير ثباتها وكوخها الطيني حتى لو بنوا ألف حي لأغنياء الحصار والحواسم ومدراء البلديات وأمناء صناديق البنوك وشُعب الحسابات ومهندسي ذرعات المقاولات الوهمية والإيفادات المكوكية ، لأنها مدينة ولدت لتكون ، ولم تولد لتموت أو تنتحب أو تُهزم ....
31 ماي / المانيا