العراق بعد اثنتين وثلاثين سنة (3) سهر العامري
لم تعد البصرة مثلما عهدتها من قبل ، تلك المدينة التي كنت أزورها أيام الصبا رفقت والدي ، حيث كانت محط رحال التجار القادمين من داخل العراق وخارجها ، وحيث كانت أسواقها مزدهرة ، وأنهارها تحتضن السفن الشراعية والبخارية ، ونخيلها كث ، تطاول أعناقه السماء.
كتب عنها ابن بطوطة فقال : (... قام الخطيب الى الخطبة سردها ، لحن فيها لحنا كثيرا جليا ، فعجبت من أمره ، وذكرتُ ذلك للقاضي حجة الدين ، فقال لي " إن هذا البلد لم يبق به من يعرف شيئا من علم النحو " وهذه عبرة لمن تفكر فيها ، سبحان مغير الأشياء ، ومقلب الأمور . هذه البصرة التي الى أهلها انتهت رياسة النحو ، وفيها أصله وفرعه ، ومن أهلها أمامه الذي لا ينكر سبقه ..)
كان ذاك في القرن الثامن الهجري ، فكيف بها اليوم ومجاري مياها تتدفق نتنا وروائح كريهة وهي تمر مفتوحة كالأنهار في كل صوب وحدب منها ، كيف بها وشوارعها مهدمة تتطاير الأتربة منها ، كيف بها ثالثة ونهر العشار عاد مكبا للنفايات ، آسن الماء بعد أن كان سلسلا عذبا يزهو بالسفن الشراعية !
لم يلفت انتباهي شيء جديد من البصرة ، ألقيت نظري على كل شارع وزاوية مررت بهما ، ومع هذا لم تقع عيني على ذاك الجديد الذي نشدته ... فسبحانه مغير الأشياء ، ومقلب الأمور ، كنا قبلا حين نقترب من مدينة البصرة يطالعنا نخيلها ، فهي المدينة التي قال عنها ابن بطوطة : ( ليس في الدنيا أكثر نخيلا منها .! )
لقد حولت الفوضى الخلاقة بساتين النخيل في مدينة البصرة ، ومدينة كربلاء ، وغيرهما من المدن في العراق الى أرض تباع وتشترى ، فالنخل لم يعد مصدر رزق كبير ، وإنما صارت الأرض التي يقف عليها هذا النخل هي مصدر الرزق الكبير ، وذلك بعدما تفاخر رامسفليد ، وزير الدفاع الأمريكي ، بعلو هامة أسعار العقار في العراق ، مبرهنا على التطور والبركة التي حلت بالعراق وأهله بعد أن قاد هو تلك الفوضى الخلاقة التي نزلت به وبهم ... السلعة التي غلا ثمنها ، وأرتفع ربحها ، وصارت ميدانا لمضاربات قتلة النخيل في عراق اليوم هي الأرض ، وليست كل الأرض ، وإنما أرض بساتين النخيل التي تحيط بمدن العراق المنكوبة بفقدانها باسقات الطلع جمالا وخيرا ، والغرض من ذلك هو تحويل تلك البساتين الى دور سكنية وفنادق تدر مالا كثيرا على المضاربين أولئك ، حتى صار النخيل في العراق اليوم يقتل أمام أنظار الجميع مثلما يقتل الإنسان فيه ، رغم أن العراق بلد شحت الأشجار فيه ، وقلت الزراعة في أرضه ، ففي السويد مثلا ورغم كثرة غابات الأشجار فيها إلا أنهم يغرسون شجرة بدل كل شجرة تقطع . لكنها الفوضى الخلاقة التي أتت على كل شيء جميل في العراق .
أسواق البصرة تقادم بها الزمن ، وساحاتها تعرضت لتخريب متعمد وغير متعمد ، تعلوها أكوام من النفايات ، هي مثل أكوام النفايات التي شاهدتها في ساحات بغداد وأنا في طريقي الى بغداد الجديدة منها ...
إذا رغبت بشراء قنينة ماء من تلك الأسواق ثم سألت عن أفضلها ، قالوا لك : الماء السعودي أو الكويتي هو الأفضل ! عجيب أمر العراق صار لا يصنع الأفضل بل غابت الصناعة عنه ، فالمعامل معطلة ، مهملة ، ورجالها بين البطالة والرحيل ، وإذا كان حال الصناعة هو ذاك ، فحال الزراعة ليس أفضل منه في عراق اليوم ، فالريف قد هجره فلاحه بعد أن شحت مياهه ، وبعد أن عضه الجوع هناك ، فوجه وجهه صوب المدن ينشد لقمة العيش ، بائعا على رصيف ، أو سائق سيارة وهي المهن الأكثر انتشارا في عراق اليوم ... وعلام البقاء في ريف لا تتوفر فيه شروط الحياة المتوفر في المدن ؟ ولذا حين تود شراء ثمار الرقي أو البطيخ الأخضر كما يسميه أهل الشام أو الدلاع مثلما يطلق عليه في بلاد المغرب العربي ، قال لك البائع : هذا إيراني ، أو هذا سوري ، أما رقي الموصل فلا وجود له ، ولا وجود لرقي " إصلين " من البصرة كذلك ... كان هارون الرشيد قد اتخذ من مدينة الرقة في سورية مصيفا في بعض سنوات حكمه ، وكان عرب الشام يزرعون ثمار الرقي في تلك المدينة ، فهب العراقيون قديما الى زراعته في أرضهم ، ونسبوا اسمه الى مدينة الرقة التي عرفوه فيها ، ومن هنا قالوا عليه بطيخ رقي ثم اكتفوا بالصفة فقالوا : رقي .
لم تلفح وجهي ريح باردة ، وأنا عائد من البصرة الى مدينة النجف مرورا بالناصرية إلا بعد أن عبرت بنا السيارة جسر تتقاطع الطرق عنده بعيد مدينة الديوانية ، طوال ذلك الطريق كانت السيارة تسير بنا في صحراء قاحلة ... أهذه هي الأرض السواد التي عرفها العالم القديم ، فكيف أصبحت في العالم الجديد أرضا يبابا ؟ وا حسرتاه ثم وا حسرتاه !!
هبت علينا ريح باردة فجأة ، ونحن نعبر ذاك التقاطع ، عرفت حالا أننا نمر على أرض زراعية تصعد عليها سيقان القمح ، وهناك بعض أشجار لم أتبينها ، لكنها لا تبتعد كثيرا عن شجيرات الكروم ، مثلما هناك بعض من شتلات نخيل ناهضة ، شاهدت مثلها وأنا أقترب من ناحية الفهود في محافظة ذي قار ، وقد سرني ذلك المنظر أيما سرور .
تتفاقم في مدينة البصرة وغيرها من المدن التي زرتها مشكلة التسول والمتسولين خاصة الشابات من النساء على وجه الخصوص ، كن يعترضن أصحاب السيارات وهم يمرون في شوارع تلك المدينة ، وحين لاح مني استفهام عن هذه الظاهرة قال لي محدثي البصري : اعتقد أن هؤلاء من نساء الغجر مثلما يقول البعض ! ولكن أشكالهن تكذب ما يقولونه عنهن . رددت على محدثي .
في عراق اليوم تسحق البطالة الملايين من البشر نساء ورجالا ، فتحيل الكثير منهم الى متسولين رغم أنوفهم بعد أن تشح عليهم فرصة العمل ، فالفوضى الخلاقة خلقت شريحة اجتماعية غنية ، إن لم أقل طبقة ، تعلقت بأذيال المستعمرين الجدد ، وهذا الشريحة تمثلت بأصحاب الوظائف الكبيرة من وزراء وأعضاء برلمان ، وعسكريين برتب عالية ، وموظفين كبارا وصغارا ، يضاف الى هؤلاء التجار الكبار ، وبعض الكسبة الصغار ، حتى صار هؤلاء ينكرون الفقر الذي يستبد بالملايين من العراقيين ، وعادوا لا يشعرون أن هناك من العراقيين من يعيش على الفضلات الملقاة في مكبات النفايات خارج المدن .
مع كل ذلك تظل العواصف الترابية التي تجتاح المدن العراقية مشكلة حقيقة يعاني منها العراقيون اليوم ، ولا أنسى ما حييت تلك العاصفة التي ضربت مدينة كربلاء ، فصار الواحد منها لا يتبين طريقه على مدى خطوات قليلة ، وقد تستمر هذه العواصف لساعات طوال ، تنزل فيها حمولاتها من التراب على الطرقات والبيوت على حد سواء . ومن الطريف هنا أن أذكر أنني ما شاهدت طائرة تنوي الطيران وتخلف وراءها عاصفة من التراب إلا في مطار النجف ، حيث كانت كل طائرة تريد الصعود تترك وراءها مثل تلك العاصفة حتى لكأنها سيارة تسير على طريق ترابي ، والسبب في ذلك أن أرض المطار تغطيه الأتربة التي تحملها عواصف تهب بين حين وآخر.